الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

أرواح مسروقة في سجن النساء


منال الشريف


العاشرة مساءً ليلة السبت، تتحلق السجينات السعوديات نوير وهناء حول راديو أم مشعان في زنزانة رقم ٢، ينتظرن بلهفة برنامج (لست وحدك) على البرنامج الثاني لإذاعة جدة. البرنامج الذي يتحدث عن مشاكل وهموم الناس، وكأنك بحاجة لتضاعف جرعة همومك، ربما هو العزاء الذي تستمده من أحزان غيرك. قد يعني الوقت في الجانب الآخر من هذه القضبان، الحياة بكل مشاغلها ومباهجها وأحزانها، لكن هنا تفقد الاحساس بالوقت والحياة، ساعات يومك وساعات ليلك تتشابه حد التطابق. ساعة واحدة تترقبها وتلاحقها كما تلاحق الفراشات التائهة بصيص النور.. ساعة انتقالك من هذا العالم إلى العالم الآخر، حيث البشر مازالوا يشعرون بآدميتهم.

اصلاحية سجن النساء في الدمام، المبنى المتهالك، سبع زنزانات، ١٦٧ امرأة، ١٦ طفل وطفلة، ومئات الآلاف… من الصراصير. أحصيت ٧ سجينات سعوديات، والبقية عاملات منزليات أغتالت أحلامهن كل الظروف. حوت كل زنزانة ١٢ سريراً حديدياً مهترئاً، لا تكفي العدد المتكدس، حين تدخل هنا، يتم تجريدك بالكامل من شيئين، ملابسك وكرامتك، تتساقط أمامك قطعة قطعة حتى تصبح عارياً من معنى إنسان. حين تدخل، تخترقك العيون كمطر من رصاص، تجمهر عظيم عند بوابة الزنزانات وهتاف عالي بعربية مكسرة: “جديد، جديد، جديد”. لا مكان للصلاة، فالمسجد الخارجي مغلق، لا مكان للأكل أو الجلوس. ستنام وتأكل وتصلي في مكان واحد، تختلط عليك الأمورحتى تصاب بالجنون. الصراصير التي تشاركك كل ذلك، وحدها من سيعيدك لأرض الواقع بكل جنونه ولا إنسانيته. لا تعرف كيف تصنف دورات المياه، لا يوجد صنابير أو رشاش، ثقب في الجدار يبصق في وجهك ماء بشكل متواصل، تخال أن مياه مدينة الدمام كلها ستجف بسبب اهداره هنا. ستغتسل وتفرش أسنانك وتتوضأ وتغسل ملابسك أيضاً تحت نفس الثقب. في ليلتي الأولى أفترشت عبائتي في الممر المكتظ هو الآخر بمن ضاقت بهم الزنزانات…. ولم أنام.

لا نوافذ…الأضواء تظل مضاءة، تفقد الإحساس بالليل و النهار، تنظر بخواء للساعة المعلقة على الحائط، لا تسمع تك تك، تشعر وللمرة الأولى أن الوقت توقف، تريد أن تمسك بعقارب الساعة وتجرها لرقم ٩ فالتاسعة صباحاً هو الوقت الذي سيفتحون فيه الباب لتخرج لفناء خارجي مغطى بألف شبك وشبك، تتسلل منه خيوط النور لتصنع بقعاً على أرض الفناء الأسمنتية. شمسنا القاسية التي طالما هربت منها، ألاحقها هنا، أبحث عنها، أحتضنها، أتنفس حريتي بين يديها.

تطلق مها تنهيدة طويلة وتردد: (ما كسرني الوقت، فكيف يكسروني؟)، تحدثني من زنزانتها الإنفرادية التي تقع خارج البوابة الرئيسية للعنابر السبع الداخلية.. عن بناتها التي حرمت من رؤيتهن ١٣ عاماً لأن الأب لم يسمح لها والقوانين لم تعبأ بها.. ثم كيف فجعوها في ابنتها الشابه اليافعة مسمومة مسجاة على السرير الأبيض تصارع الموت، تقول مها: (تركتها بظفائرها الطفلة، وأراها بعد ١٣ عاماً شابة يافعة بطولك أنت، لكن طولها كان ممداً أمامي، أشارت الخيوط الأولى أن العاملة المنزلية سممتها بسم الفئران، جن جنوني وطلبت فتح التحقيق لكشف المشتركين في الجريمة، بدأت تشير الخيوط لوالدها الذي طالما أذاقهم المرارة، سبقني وقدم شكوى أنني المحرضة، ليزج بي في السجن موقوفة على ذمة التحقيق أنا وقاتلة ابنتي في سجن واحد).. خرجت مها بعد ٨ أشهر بلا تهمة وبلا عوض عن السجن الإنفرادي وبلا تقديم للمجرم الحقيقي للعدالة.

بعض السجينات لا يتحدثن العربية، ولم توفر لهن الحكمة أي مترجم، لم يفهمن لماذا جئن هنا. ملئت دفتراً بعشرات القصص، كتبت عشرات رسائل التظلم والإسترحام للسجينات. آنا ماري كريسوستومو فلبينية أنهت محكوميتها ٣ سنوات وزادت عليها ٣ سنوات أخرى لأنها لم تستطع دفع غرامتها لتخرج، قالت لي أكتبي لي خطاب لأمير المنطقة الشرقية، قولي له سأبيع كليتي لأدفع الغرامة وأخرج. مثلها الأندنوسية نور سابودين، والسيرلانكية ياني زارينا والبنقالية روما أخطر عبدالمنان، قضين وقت المحكومية ولم يجدن من يدفع غرامتهن، فأموال الزكوات والصدقات تذهب للتفريج عن كرب السعوديين فقط. وسيبقين منسيات في الزنانزين إلى يوم يبعثون.

قدمت شكوى من ٦ صفحات لأعضاء هيئة حقوق الإنسان، تصف أحوال السجن اللاإنسانية وتطالب بإتخاذ اجراءات فورية كإيقاف التفتيش العاري وفتح المصلى وتوفير من يتحدث الإنجليزية في محاكماتهن، وقدمت شكوى لمدير سجون المنطقة الشرقية، مع وعد منه أنه سيتم نقلهن للسجن الجديد حال الفراغ منه، وبعد أكثر من عام، أتحسس أخبارهن، فيقتلني ألا جديد طرأ لينقذ ماتبقى من حطام بشريتهن..

ليست هناك تعليقات: