السبت، 18 ديسمبر 2010

مفاهيم في التّحرُر





ولو تأمل الناعت إلى مبدأ الإسلام لوجد أنه منذُ تأسيسه يدعو إلى الحرية، مبدأ التحرير من عبادة الأوثان والأصنام إلى عبادة لله، وفك قيود العبودية البشرية الحسية والمعنوية، وجعل جائزة العفو عن بعض الخطايا فك الرقاب، وإعطاء المرأة نصيبًا من الميراث بعد أن كان ليس لها أي ميراث من قبل، وتقبيح وتحريم وأد البنات، وغيره من التحرر الذي أمال قلوب الضعفاء وقتئذٍ للإسلام، وبدؤوا يدخلونه أفواجًا، لأنهم وجدوا فيه حرية سلبت منهم



نحن في وقت مخاض لم تولد العقلية المحلية بعد، عن أيدلوجية واضحة المعالم، ولم نرَ بعد
هدوءاً حتى هذه الأيام. إذ يصطف الناس خلف من تميل عواطفهم إليهم، ومن له
 قناعات قد تربى عليها من نعومه جوارحه. وبعضهم يبعد عواطفه جانباً ليحاول
 أن يفهم رؤى الذين يأخذون بالمسائل المتشابكة، ومنهم من يخشى الاقتراب من
حِمى آبائه الذي وجدوهم على أمة وهو على آثارهم لمقتدٍ، لفهمه أن المخالفين
 هم أعداء ومن الجبن وقلة المروءة وضعف في الدين إلا يدافع. فيُعمل جهده ولسانه
 لحربهم.


سيبقى الاختلاف شاهرًا أعلامه في مناسبات؛ ما بقي سوء الظن قائمًا بين كل المختلفين.. وهذا يعني أننا سنسير على
خطوط متوازية كل فريق يسرع للوصول قبل الآخر. يسرع إلى الهدف، سواء أكان هدفه المجتمع أم السلطان..
رغم أن الجميع يتبارون في الوصول إلى السلطان قبل الآخر، لعلمهم أن بيده مفاتيح ليست عند غيره ليقطع بهم
 أشواطاً كثيرة، ويتخطون مخالفيهم.

ينعت (الإسلاميون) (اللبراليين) بالمتحررة، وهو نعت صحيح في أصل فكرهم، إذ اعتقادهم أن بعض
المفاهيم الاجتماعية أصبحت قيودًا دينية كـبّـلت عقول البشر، أو اختلافات فقهية حولها الإسلاميون
 إلى مسلمات دينية، يوصف مرتكبها بالمنافق أو الخارج عن الدين، فاللبرالية لا تبتعد عن التحرر، فهي
تعنى الحرية في الأصل، لكن نعت الأولين لهم مبناه التفسّد والانحلال، وهذا ما يقصدونه، ولو تأمل
 الناعت إلى مبدأ الإسلام لوجد أنه منذُ تأسيسه يدعو إلى الحرية، مبدأ التحرير من عبادة الأوثان والأصنام
 إلى عبادة لله، وفك قيود العبودية البشرية الحسية والمعنوية، وجعل جائزة العفو عن بعض الخطايا فك الرقاب،
وإعطاء المرأة نصيبًا من الميراث بعد أن كان ليس لها أي ميراث من قبل، وتقبيح وتحريم وأد البنات، وغيره من
 التحرر الذي أمال قلوب الضعفاء وقتئذٍ للإسلام، وبدؤوا يدخلونه أفواجًا، لأنهم وجدوا فيه حرية سلبت منهم..

ثم انطلق الإسلام يجوب الأراضي محررًا كل مفاهيم عبودية تقيد البشر من حلاقيمهم، دينية أو دنيوية
. وأتى اختلاف الفقهاء فيما بينهم فظهرت فرق وطوائف صنفت بعضها بعضًا لاختلاف بالأصول وبعضها
 لاختلاف بالفروع، وحدث قتال بالألسن وبالدماء، بسبب هذه الجملة من الخلافات والاختلافات. والذي
يعود سببها تعصب ديني، أو إقليمي، ومعظمها وأكثرها شائعة هو السبب السياسي. فاستحوذت على كثير
من الصراعات الدينية على مدى عصور طويلة إسلامية كانت أو غير إسلامية، وكان المقابل الذي فقده
الإنسان في هذه الصراعات هو الحرية.
شن اللبراليون حملاتهم على الإسلاميين بكل ما يزيد من حنق الآخرين عليهم، فما يغيض الإسلاميين يتعمدونه
 مخالفيهم، وكلما ازداد صراخهم كلما ازدادت مكائد الأولين عليهم، وأصبح الصراع ليس للحق
ولكن للكيد والاستنصار على الآخر. فالإسلاميون يمدون الناس بالحجج ـ على حسب اعتقادهم ـ الدينية
مع الدليل الشرعي المنتقى من قبلهم، والتحذير ثم الوعيد بالعقوبة الإلهية إذا تناول الناس الأقوال والأدلة الأخرى.

وعند قراءة سيرة عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ هذا العبقري الذي يدرك ما عجز عنه بعض الصحابة
الكرام في وقته آنذاك، فقد كانت أحكامه السياسية والفقهية تتماشى مع تغيرات دولته واتساعها، فهل كان
عمر ليبرالياً حين أجتهد في النصوص؟!. رغم أن من يأخذ بالآراء الفقهية المخالفة للسائدة في البلاد لا يجتهد
 وإنما ينقل الحكم من نص صحيح، أو رأي أخذ به كبار علماء سابقين لهم مذاهب يُتعبد بها!

لم يكن رأي الإسلاميين ذا طابع متزن ولا عقلية واعية حين يصفون الآخرين بأنهم يتقصدون (تمييع أو تليين الدين)
 لأنهم لم يأخذوا ما وجدوا عليه آباءهم.  فمن الإجحاف ظلماً أن يتهم من كان يتعبد بهذه الأقوال.
هذه العبارة الاستعطافية، تعمداً، لاصطفاف الجمهور خلفهم، وتحشيد العامة ضد من أتى بغير ما يريدون،
هي ذا طابع تقليدي يتبعه كل من يشعر بانسحاب الأغلبية من تحت رأيه.

تشير كثير من الدراسات السيكولوجية، أن شدة الانعطاف نحو الرأي وانغلاق الرؤى وانحصارها في جهة نائية،
 تولد انفجارًا يوازي مقدار التطرف الذي عصرت به. وعلى قدر ما يكون الضغط سيكون الاندفاع، وكلما
حصر علماء الدين الحرية الإسلامية في زاوية وتعمدوا تغطية أطرافها لسبب الخوف من تفشي الفساد، فسيكون
من يتعمد الفساد لأجل الفساد قاصداً، باسم الحرية وحقوق البشر.

لو خرج الإسلاميون من تصنيف مخالفيهم، وكفّ تأليب الناس عليهم، وتعفف ألسنهم عن اتهامهم بالنفاق
والكفر، لما انفض الناس من حولهم أو كادوا.. فلم يجرؤ النبي (ص) تورعاً منه وحفظًا للسانه، أن يقولها لمنافقي
زمانه رغم علمه بهم. نجدها بكل جرأة يطلقها دُعاة وعلماء على كل من لا يوافقهم الرأي.. فكيف تصلح
الحال وهم يَفْجُرون بخصومهم، بهذه العصبية المتنطعة.
تيارات الحرية قادمة تجرف كل من يعوق طريقها. هذه ليست أمنية، وإنما هي قراءة لمستقبل آتٍ، إما أن نتراجع
إلى الخلف البعيد وندع كل الحضارة التي أمطرت بها علينا المدنية الآنية، أو أننا نمشي على خطاها بثوبنا لا بثوبها،
وبخطواتنا لا بخطوات الآخرين، نسير مع التغيرات الحضارية، دون أن نفقد أسس الدين وأصوله، وندع  المشاجرة
في كل ما هو معيق لنا.
ما فتئ الإسلام وهو يعلمنا السماحة واللين، ومرونته في التغيرات الزمانية والمكانية، ويأبى المتصدون لهذه المتغيرات
 لعجزهم عن فهم المرونة في الدين. هو يعني دخلوهم في معارك لن تنقطع، وجولات لن تنتهي، وسيمل الأتباع
من هذه الصراعات وسيتخلون عنهم ويتساقطون تباعًا،لأن الشعوب تركن دائمًا إلى الهدوء والسكون. وسيعجزون
 أيضًا عن مجاراة التيارات الحضارية فتتوقف جهودهم في منتصف الطريق، ويتخطاهم أندادهم، لأنهم يلبون
 للعامة احتياجاتهم ويشبعون رغباتهم، أكثر من المنغلقين  تخوفًا من الفساد.

ومن تنبه لهذه المتغيرات من العقلاء،ربما يستطيع أن يحمي نفسه من تيارات تكون أقوى من التي يصطدم
 بها الآن.


ليست هناك تعليقات: